طه حسين \ضوء من الايام \ابن سنبو الكبري \حمدي غمري عبدالعال00000000000000000000000000طـــه
حـــــسين" حقُّ الإنسان في العلم والحرّية " ضوء من " الأيام"..
"...وكذلك قضي على الفتى أن يستقبل طَلَبه العلم في الأزهر، والجامعة
المصرية،والجامعة الفرنسية بكلمة عن آفته تلك، توذي نفسه، وتفرض عليه
ليلةً ساهرة،ثم يعرض عنها بعد ذلك لأنه لم يكن بدّاً ممّا ليس منه بُدّ
وما أكثر ماذكر بيت أبي العلاء. وهل.يأبق الإنسان من مُلك ربّه فيخرجَ من
أرضٍ له وسماء؟!. وما أسرع ماكان الفتى ينسى هذه الكلمات المؤذية بعد أن
يشتري هذا النسيان بليلةٍ ينفقها مُسّهداً محزوناً! ثم يُقبل بعد ذلك على
مالم يكن بدٌّ من الإقبال عليه من العلم في الأزهر، وفي الجامعة المصرية
وفي جامعات فرنسا "..(1). *** لا نعرف إذا كان هناك اثنان يختلفان حول
الأهمية الاستثنائية للدكتور طه حسين في الفكر العربي الحديث سواء كان
المرءُ معه أم ضدّه . طه حسين الرجل الذي ولد عام 1889، وتوفي في تشرين
الأول (اكتوبر)من عام 1973عن أربعة وثمانين عاماً. تجلى نضجُ الفتى طه
حسين منذ الطفولة قبل أن يفقد بصره في حوالي السنة الرابعة من عمره..
تجلّى هذا النضج أكثر عندما دخل الأزهر عام 1902م،إذ ضاق عقل الفتى بطرق
الأزهر في التلقين آنذاك فراح يسأل ويلح في السؤال،وتحول السؤال إلى
تمرّد، وجعله يخرج من الأزهر لأنه طالب بإصلاحه والعودة به إلى ايامه
الزاهرة. ترك الأزهر ليلتحق بالجامعة المصرية التي افتتحت لتوها عام
1908م، وتقّبلته طالباً منتسباً.. صار يسمع في الجامعة غير ماتعود أن يسمع
في الأزهر، علوماً عصريّة،وتفتحّت مواهبه.. وبعد فترة شعر أن الجامعة
الوليدة ضاقت عن تطلعه وطموحه وابتعد به الخيال إلى (باريس)في بعثةٍ عن
طريق الجامعة وماأكثر العقبات التي وُضعت في وجهه، ولكنه صمد لكل التحديات
واستطاع أن يكون أول طالب يتخرج من الجامعة بحصوله علىشهادة علمية
-دكتوراه- حضّرها وقدّمها دون إشراف من أستاذ عام 1914، تحت عنوان " تجديد
ذكرى أبي العلاء". تحقق حلمه ليسافر إلى باريس مع أخيه واشتدت عليه
الصعوبات، واختلف مع أخيه وافترقا،ولكنه أحسَّ بأنه حقَّق شيئاً عظيماً
بوصوله إلى فرنسا، لتبدأ هناك المرحلة الأهم من حياة الفتى الذي وجد في
باريس العلم والثقافة والتفتح، والتقى إضافة إلى ذلك الزميلة
والمدرسةالفرنسية( سوزان)عام1917،الفتاة التي كان لهامن عمق الفكر وسعة
الثقافة وما أهلّهالإدراك المهمة التي شعرت أن الرجل يضعها أمامه في
المستقبل مهمة إيقاظ العقول - كما ظهرت بعدئذٍ في معظم كتاباته. طه حسين
لم يكن قد أنهى مرحلة اليفاعة حين شرع يكتب في الصحف ضد الرجعيين، واساليب
التلقين البالية في التعليم وكان أول ما هدف إلى تحطيمه هو التقاليد،وليس
صُدفة أن نجد ( السياج) رمز التقاليد في الصفحات الأولى من كتابه الشهير [
الأيام] (1) الذي كان مع كتابه الآخرعن الشعر (الجاهلي) تعبيراً عن مرحلة
التحدّي التي عاشها طه حسين منذ أول الشباب . لقد تبّدى القلق والتحدي
عنده عندماارتحل من الصعيد إلى الأزهر ثم تركه ليلتحق بالجامعة
المصريةدارساً آنذاك ،ثم يتركها كي يعود إليها، بعد رحلته إلىباريس
محاضراً فعميداً فرئيساً بعد أن قضى ثلاثين عاماً من حياته تلميذاً طالباً
للعلم ليقضي بعدها ثلاثة وثلاثين عاماً بين أستاذ في الجامعة أو عميد
لكليَّة الآداب، أو وزير معارف أو رئيس تحرير لصحيفة مشهورة وبعدها عاش
حوالي عشرين عاماً فيمايشبه العزلة ليكتب بقية [الأيام]. قال ( جان جاك
روسو): " أحسستُ قبل أن أفكر" وجاء طه حسين ليقول: " تألمت قبل أن أفكر "
.. في البدء كان الألم عند طه حسين وجاء الفكرعنده ليقهر الألم لأنه آمن
منذ بداية حياته أن الفكريبدّد الألم، ويذلل العقبات، وكان يقول علىغرار
أستاذه ( ديكارت):" أنا أتألم إذن أنا موجود" لكن ثقته العميقة بنفسه
قادته إلى قهر الألم، كما قادته إلى أن يُقارن نفسه بشواطئ النيل الرطبة
التي حين يُضغط عليها تنبع ماءً.. ولم يكن الألم عنده وليد ثقافة تأثر
بهاوإنّما كان حياة يعيشها، ابتداءً من فقد البصر المبكر والصراع ضد
التقاليد (السياج) ثم الصراع مع الأزهر ثم ألمه -وهوالريفي البسيط فاقد
البصر - في التأقلم مع أجواء جامعةالسوربون في باريس،وقاده هذاالصراع مع
الألم والانتصار عليه إلى موقع لا يبلغه إلاّ القليلون،موقع الرجل الذي
يفكر ويطبق ما يفكر به، يأتي بنظرية ثم يُبدع في تطبيقها. لقد كان شعوره
بالألم الناتج عن ظلم القدر، وظلم المجتمع حاداً، ولكنه أدرك أن قدرته على
العطاء مرهونة بسلامة الإدراك لذلك مارس على نفسه ضبطاًعظيماً فرّوضها
وانتصر عليها، لأنه كان يعرف أن الانتصار في الحياة لايتم إلاّ عن طريق
الانتصار على النفس. إن كتابه الرائد(الأيام) يُعطيناصورة عن صراعه مع
الألم، لأنه يلخص لنا سيرة حياة إنسان غالبَ مافي ذاته من عوائق وانتصر
عليها، وصارع ما حوله من شروط مُعيقة وانتصر، ونتعلم منه أن الظروف قابلة
لأن تتبدّل لصالح الإنسان بالعمل والدأب والصدق مع الذات. إن طه حسين
صارعظيماً رغم فقدان البصر بالإرادة والعمل والتصميم، ولم يهدر حياته
بتأفف ويندب حظّه العاثرلأنه " كان مع نفسه حين يشقى في سبيل مايرى أنه
الحق وكان ضدها إذا شعر أنّها صانعت أوداجت أو جهرت بغير ما تؤمن به ،أو
آثرت رضى السلطان على رضى الضمّير"(3). طه حسين الرائد: كان طه حسين أول
من حصل على إجازة علمية من جامعة عربيةحضرها ليقدمها بنفسه دون إشراف من
أستاذ ونوقشت بين يدي الجمهور عام 1914 وأوفدته الجامعة المصرية إلى باريس
في العام نفسه مكافأة له علىاجتهاده في تحضير رسالته عن أبي العلاء
المعري،" تجديد ذكرى أبي العلاء ". وكان في باريس أول من اكتشف من العرب
جوانب العظمة عند العلامة العربي- ابن خلدون- عندما حضّر رسالة للدكتوراه
باللغة الفرنسية عن " الفلسفة الاجتماعيةعند ابن خلدون" تحت إشراف عالم
الاجتماع الفرنسي الشهير: دوركهايم. وكان أول من ناقش قضية الشعر الجاهلي
عام 1926م مُطبقاً منهج (ديكارت)القائم على الشك والذي أثر كثيراً على طه
حسين وأثار كتابه عن الشعر الجاهلي ضجةُ هائلة انتقلت إلى مجلس النواب
ورُفعت ضده القضايا في المحاكم ومُنع الكتاب من البيع!! وكان أول المفكرين
الذين وقفوا ضد رئيس الوزراء الطاغي - صدقي- الذي أحال طه حسين ظلما
علىالتقاعد ولكن ذلك لم يقعده فمارس العمل كاتباً في الصحف. وكان أول من
طبق شعاره المشهور الذي طرحه عندما تولى وزارة المعارف: " التعليم ضروري
للناس ضرورة الماء والهواء"، حين قرّر مجانية التعليم ،وحاول تطبيق مجانية
التعليم الجامعي لكن الملك رفض ذلك ... -وحول الكثير من الكتاتيب -وهي
المدارس الديّنية -إلى مدارس ابتدائية،وافتتح آلافاً من الصّفوف لينشر
التعليم بين أبناء الشعب الكادح.. وماكان أصدق مجلة " الطليعة" المصرية
حين تحدثت عن أثر طه حسين في المثقفين من الشعب العربي في مصر فقالت: "
إنَّ في أعناق المثقفين المصريين ديناً ثقيلاً لطه حسين فمامنهم إلاّ
واستمد من نور عقله قبساً، بل إن أجيالاً بكاملها كان يمكن أن تنفق حياتها
من غيرجدوى لولا إيمان هذا الرجل العظيم بحق الإنسان في العلم والحرية.))
كان طه حسين أول من كتب في السيرة الذاتية كتاب [ الأيام] الذي يمثل ظاهرة
غيرمألوفة في الأدب العربي الحديث الأمر الذي جعل الدكتور " حُسام الخطيب
" يعتبر كتاب الأيام" ثمرة مبكرة نضجت قبل موسمها المتوقع" إذ حين صدر
كتاب -الأيام- عام 1926 كان الطارق الأول لهذا الفن في أدبنا العربي وتنبع
أهمية هذا الكتاب من أنه يقّدم لنا الإنسان- التجربة الإنسانية في مواجهة
الشرط الاجتماعي، ومحاولة تغييره لصالحها،فخرج بذلك عن كونه تجربة شخصية
ليأخذ بعداً إنسانياً شاملاً. وكان طه حسين من أوائل المفكرين العرب الذين
ربطوا بين حرية الأدب وحريّة الأديب، وقالوا: إنّ الأدب ظاهرة اجتماعية
كما أن الإنسان نفسه ظاهرة اجتماعية وان الأديب لا يُحسّ ولا يشعر ولا
يفكر لنفسه فقط، وأنّما يحس ويشعر ويفكر للناس... وهومن الذين آمنوا
بالعلاقة الوثيقة بين الثورات والآداب لأن الفنان عنده يتحسّس القهر
والظلم قبل غيره. وتحدث كذلك عن الظلم باعتباره مصدر التفاوت بين الناس إن
رُفع عنهم، سادت المساواة ،ذلك لأن الخيرات التي تنتجها الأرض وتنتجها
الحضارة لا يمكن أن تتفاوت حظوظ الناس فيها إلاّ إذا كان الظلم مصدر هذا
التفاوت فإذا ظفر -زيد- بالغنى فلا بدَّ أن يضطر - عمرو- إلى الفقر..
والسبيل إلى المساواة أن يُؤخذ من الغني وأن يُرد على الفقير حتى لاتكون
بينهما هذه الفروق وفي تقييم هذه الأعمال الرائدة لطه حسين نستعين برأي
طرحه عام 1950وهو يستقبل ( محمود تيمور) عضواً في مجمع اللغة العربية
بالقاهرة،ونرى أن هذاالذي قاله في محمود تيمور ينطبق عليه أكثر مما ينطبق
على المعني به،قال طه حسين:" وسبقت إلى شيء لاأعرف أن أحداً شاركك فيه في
الشرق العربي إلى الآن ،وإذا ذهب أحد مذهبك أو جاء أحدٌ فيما بعدُ بخير
مماجئت به فلن يستطيع أن يتفوق عليك لأنك فتحت له الباب، ومهدت له الطريق
وأتحت له أن ينتج وأن يمتاز وأن يتفوق". كما كان - مكسيم غوركي- أول مسؤول
عن تنظيم دار الأدب العالمي للنشر في الاتحاد السوفييتي - حين كان اتحاداً
- حيث جمع فيه البارزين لترجمة النتاجات الأدبية العالمية القيمة ....كذلك
فعل " طه حسين"عندما كان المشرف علىترجمة إبداعات الفكر الإنساني ،إلى
اللغة العربيةلوضعها بين يدي القراء العرب،وإذا كان مكسيم غوركي لم يتحول
إلى قيمة٧ تاريخية فقط بل استمر قيمةًسارية المفعول تؤثر إلى الآن بماطرحه
في أبداعه.فإن طه حسين كذلك مازال قيمة سارية المفعول من خلال مواقفه التي
نشعر بحاجتنا إليها في كثير من شؤون حياتنا في الوطن العربي ،وربّماأصبح
طه حسين الفكر قيمة تنتمي إلى التاريخ ،ولكن طه حسين المواقف مازال قيمة
مستمرة العطاء نتّعلم منها الكثير لأن مواقفه عبر حياته كانت في مجموعها
دعوة تمرد على ألوان العبوديات التي صاغتها قيم المجتمع سواء على مستوى
حياة الفرد أو الجماعة .. وقد يخالفه المرءُ أو يتفّق معه لكنه يظل يرى
نبتة الثورة على قلمه، ووقفه الخروج علىالتحنيط ومحاولة تجاوزه كماتقول(
الدكتورة) نجاح العطار في مجلة المعرفة في العدد (155) كانون الثاني لعام
1975.... ثم علينا أن نتذكر أن مثل هذه المواقف الآن لم تعد تحتاج ماكانت
تحتاجه في مرحلة طه حسين. قال طه حسين يوماً: " ما أبعدني عن هذا
الاطمئنان الذي يُتيح لي تذكر الماضي أنا ذلك الرجل المقذوف باستمرار إلى
أبعد، ولا يمكنني التّوقف ولا الاستقرار..". ولعل هذا القول يمثل أحد
المفاتيح الهامة في دراسة هذا الرجل والمفتاح هو: العلاقة السيئة مع كل
شيء جامد بدءاً بأسلوب التلقين في التعليم وانتهاءاً بالسلطة المستبدة.
هذا المنفي خلف جدار فقدان البصر الرهيب، يصرُّ على التحدي والمجابهة حتى
تتجاوز دعوته إلى التحرر مصر وتنتشر في الوطن العربي دعوة يتصل فيها العلم
بالعمل لأن صاحبها رجل ثقافة مُقاتل كان العلم عنده هو الشجرة والعمل هو
الثمرة...ولأن موقفه من الحياة كما لخصّه في إيجاز بالغ في أحد مقالاته
هو- حبٌّ للمعرفة وصبر علىالمكروه- ظل يغذي هذا الموقف بسلوكه ومواقفه
،فحب المعرفة هذا لا يطفئه اكتساب العلم وإنمايزيده قوّة وشدةً ،وإذا كانت
حاجةً مًن عاش لا تنقضي، فحاجة من ذاق المعرفة للمعرفة أشدّ الحاجات
إغراءً بالاستزادة، وهذا الظمأ الشديد للمعرفة وإدراك قيمتها في تقدم
الشعوب،جعل طه حسين بطل تحديث التعليم في مصر العربية ثم في الوطن العربي
بعد ذلك. العلم من أجل كل الناس: اقترن اسم طه حسين في تاريخ مصربأنه أبو
مجانّية التعليم وبأنه أبو الجامعات فهو الذي أنشأ جامعةالإسكندرية عام
1944 وأنشأ جامعة عين شمس أثناء توليه الوزارة عام 1950ووضع نواة جامعة (
أسيوط) وهو الذي وحدّ التعليم في مرحلته الابتدائية فحوّل كتاتيب القرون
الوسطى إلى مدارس ابتدائية تُعلّم فيها مبادئ العلوم الحديثة،وخلال عامين
من توليه وزارة المعارف 1950-1952بلور اتجاهه بإنصاف - المعذبين في الأرض-
في سلسلة من التشريعات الديمقراطيةكان أهمها:مجانية التعليم،وتقرير تغذية
التلاميذ في المدارس على نفقة الدولة، كماكان منذ ثلاثينات هذا القرن وراء
تحويل المدارس العليا للزراعة والتجارة والطب البيطري إلى كلّيات جامعية.
وإدماجها في جامعة القاهرة - الجامعة المصرية يومئذٍ فاستحدث ثورة ونسف
لغماً ضد الرجعية التعليمية التي ربطت التعليم باحتياجات الرجعية والتي
يسوؤها أن يتعلم المواطنون وأن يفكروا تفكيراً حراً...! وإذا كان طه حسين
من أوائل الذين فجروا الصراع بين ديمقراطية التعليم ورأسمالية التعليم فإن
ذلك في الحقيقة كان صراعاً سياسياً بين الذين يريدون التعليم من أجل
الجماهير سلاحاً بيدها لتغيير واقعها ،وبين أولئك الذين يريدون لأبناء
الشعب أن يكونوا مجرد آلات جاهلة تخدم الإنتاج العائد للرأسماليين
والاقطاعيين. احتج على أساليب التلقين في الأزهر فخرج منه لأنه طالب
بإصلاحه وحرم من النجاح علىأثر ذلك كما حرم من الحصول علىالشهادة . في عام
1928انتخب عميداً لكلية الآداب ثم أعيد إليهاعام 1930وطلب إليه رئيس
الوزراء آنذاك أن يكون رئيس تحرير جريدته فرفض وأحاله إلى وزارة
المعارف... وامتنع طه حسين عن العمل وشنَّ حملة صحفية وقفت فيها الجامعة
إلىجانبه واستمر طغيان رئيس الوزراء " اسماعيل صدقي " -وأحاله علىالتقاعد
!!. بينما كان طه حسين أستاذا في الجامعة - كان أستاذه وصديقه " أحمد لطفي
السيد " مديراً لها،نشأ بينهما خلاف حول مجّانية التعليم الجامعي لأبناء
الأساتذة فقال مدير الجامعة: عندمايدخل " مؤنس بن طه حسين " الجامعة
سنمنحه المجانية ؟! ردّ طه حسين علىالفور: أنالا أقصد نفسي وإنماأريده
مَبدأ عاماً ... ثم أعلن استقالته من الجامعة. رفض طه حسين عميد كلية
الآداب منح درجة الدكتوراة الفخرية لبعض الساسة مجاملةً لهم ممن حولهم ولم
يذعن لتعليمات وزير المعارف -عيسى حلمي - الذي وصفه العميد بأقذع الأوصاف
وصدر قرار الجامعة بنقله منها، واحتج أستاذه لطفي السيد واستقال من إدارة
الجامعة تضامناً مع طه حسين. حين كان طه حسين عميداً لكليةالآداب زار
الملك ( فؤاد) الجامعة ومعه رئيس وزرائه ( اسماعيل صدقي ) ووزير المعارف (
عيسى حلمي) وكان من عادة الملك أن يستمع إلىبعض المحاضرات وقد نبّه طه
حسين الأساتذة ألاّ يغيروا شيئاً من البرنامج وصادف أن كان موضوع إحدى
المحاضرات( تطور الدستور الانجليزي) ففهم الملك أن هذا تعريضٌ به، لأنه
كان قد عطل الدستور ،ولمّا سأل قال له وزير معارفه: " هذا من تدبير طه
حسين " ؟! ... كان ذلك يوم السبت ويوم الخميس صدر قانون وزاري بنقله من
الجامعة - ولمّا رفض تنفيذ القرار - يقول طه حسين: فقلتُ له: " طلبني رئيس
الوزراء وقال لي: لماذا لا تنفذ قرار الوزير ؟ فقلت له: إنه (...) ولا أحب
أن أتعامل معه ... ثم صدر قرار إحالتي على المعاش حدث ذلك في عهد الملك (
فؤاد) الذي أشيع عنه أنه كان يؤمن بالعلم والتطور لأنه قال لطه حسين حين
استقبله في الثلاثينات: أرجو ألا تصبح شهادة الليسانس شهادة طلاق بين طلاب
الجامعة وبين العلم . أما الملك( فاروق) فحين استقبل طه حسين على مضض في
أوائل الخمسينات قال له: أرجو أن تكون قد تخليت عن يساريتك بعد أن أصبحت
وزيراً !! أنا لا أريد منك يا دكتور طه الكلام الفارغ الذي تحدث به الناس
وتكتبه في الجرائد!!. يقول طه حسين: لزمت الصمت.. وكان ردّي عليه بعد ذلك
بيوم واحد أن أعلنت مجانية التعليم الابتدائي والثانوي،ولما أردت إعلان
مجانية التعليم الجامعي رفض الملك وقال لرئيس وزرائه ( النحاس) إن طه حسين
يريد أن يجعل البلد اشتراكية؟!. طه حسين الذي استطاع أن يكون عصارة طيبة
لمعهدين مختلفين: الأزهر والسوربون أو الحضارة العربيةالاسلامية والحضارة
الغربية وامتدت حياته من أواخر القرن التاسع عشر عام 1889م حتى أوائل
الربع الرابع من القرن العشرين 1973م.. لكن الحلقةالمشرقة في هذه الحياة
امتدت لأكثر من ثلاثين عاماًكانت بين ثورتي 1919 و1952 وبعد هذا الاشراق
وقف في أواخر عمره ضد تجديد طلابه الذين ربّاهم على قيم احترام العقل
،وتدريب الفكر وتنمية الشك في كل قديم حتى تثبت صحته، وذلك حين وصف الأدب
الجديد بأنه " يوناني لا يقرأ " الأمر الذي قاده إلى صراع مع طلابه وقف
فيه المجدد القديم طه حسين ضد التجديد وليس هذا غريباً في كثير من الحالات
ولعل الرجل على أهميته لم يرتفع إلىمستوى أعظم الممتازين الذين عناهم (
برناردشو) حين قال: إن جميع الممتازين بدؤوا حياتهم ثائرين وأعظم هؤلاء
الممتازين يزدادون ثورة كلما تقدموا في السن "... ويمكن القول هنا: إن
استمرار القدرة على التجديد حتى آخر العمر صفة لا يتمتع بها إلاّ القلة
القليلة من بني البشر .. ولكن هل موقف طه حسين ضد التجديد في بداية
الستينيات من هذا القرن يُلغي القيمة التاريخية له ؟ هذه القيمة التي نرى
أنها سوف تظل ساريةً ،رغم موقفه هذا إذ من المؤكد أن الكثير من نواحي
التجديد، ماكانت لتحدث في الوقت الذي حدثت فيه لولا وجود طه حسين هذا
الرائد العظيم، حين عمّم التعليم ونشّط الترجمة ودعا للأخذ بالمناهج
العلمية الحديثة في الدراسة ،وبذلك كان حلقةً مشرقةً في الدعوة للإيمان
بقيمة العلم في حياةالشعوب، وتقديس حق الشعوب في الحرية،بحيث كان معلماً
للأجيال التي جاءت بعده. ولعل وقوف طه حسين ضد التجديد يمثل سلوكاً
اجتماعياً دون أن يمثل سلوكاً فكريا،والسلوك الاجتماعي يتأخر صفاؤه دائماً
عن السلوك الفكري المجرد كما يقول ( حنا مينة) في كتابه ( هواجس في
التجربة الروائية،ص 27). إذ منذ المعركة الضارية ضد كتابه عن ( الشعر
الجاهلي) صار طه حسين يميل إلى أن يكون ( ثائراً ) في الفكر ( عاقلاً) في
قضايا السياسة والمجتمع!. هذه المواقف من طه حسين ضد التجديد لا تمنع
الرؤية العلمية الموضوعية له من تلاميذه فهذا أحد المجددين الشاعر ( صلاح
عبد الصبور ) يقول في كتاب له بعنوان ( ماذا يبقى منهم للتاريخ؟!) ص 31-:
لست أغالي إذا قلت إن من عاشوا بين عامي 1920و1950يستطيعون أن يقولوا انهم
عاشوا في عصر طه حسين كما يقول الناس أنهم عاشوا في عصر شكسبير أو في أيام
فولتير .. وهذا أحد تلاميذ طه حسين الذي أصبح فيما بعد من الكتاب
المشهورين ( الدكتور عبد الكريم الأشتر) يقول: كنا نعشق في كل أستاذ صفة"
في أحمد أمين الوضوح والعمق ،وفي أمين الخولي القدرة علىالإثارة والآراء
المتجددة، وفي عبد الرحمن عزام نقاء عروبته ورعايته للطلبة العرب ولكننا
كنا نلتقي جميعاً هذا اللقاء العفوي في ظلال هذه الشخصية الآسرة لا يكاد
يفلت من أسرها أحد ( طه حسين ) شخصيةتمثل في عقولناوقلوبنا هذاالحضور
الدائم الذي لا يغيب والمكانة الرفيعة التي لا تتأخر، والعطاء الخصب الذي
لا يدانيه عطاء إن وجوده المعنوي كان يسبق حضوره المادي...."(4). إن طه
حسين رجل المجابهة والتحدي مستمر في الذاكرة ،لأن العقبات حتى ولو كانت
كفّ البصر، لم تقف أمام إرادته في صنع نفسه ليُصبح مثلاً رائعاً للظامئ
الذي لايرتوي من المعرفة المقرونة بالعمل. وإذا جئناإلى طه حسين لنرى ما
نريد أن نراه فأننا بذلك نظلمه وإذا جئنا إليه وفي أنفسنامواقف مسبقة
جاهزة نبحث عنها فإننانتجنى عليه لأنه عمل وناضل في زمن غير زمننا الحاضر
. هوامش : 1- دكتور طه حسين (الأيام) طبع دار المعارف بمصر ج(3) ص32. 2-
دكتور طه حسين (الأيام) ج1، ص4. 3-الأيام، ج3- طبعة دار المعارف بمصر،ص
164- 165. 4- دكتور عبد الكريم الأشتر - رجال رأيتهم يعبرون حياة الجيل،
مقال في جريدة البعث، 22/11/1983. المراجع والمصادر: *دكتور لويس عوض -
الحرية ونقد الحرية- الهيئة العامة للتأليف والنشر عام 1971. * فتحي
العشري - الإنسان كلمة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1988. *
دكتور لويس عوض - دراسات في أدبنا الحديث - الهيئة المصرية العامة للكتاب
- القاهرة 1961. *مئوية طه حسين، عدد خاص من مجلة أدب ونقد رقم ( 53)
كانون الأول عام 1989. * قضايا وشهادات رقم (1) كتاب دوري ثقافي بعنوان طه
حسين.